بقاء نتنياهو السياسي- منطق التصعيد وتأثيره على المنطقة

يتناول كتاب "منطق البقاء السياسي"، الصادر عن مطبعة معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 2023 بمشاركة نخبة من المؤلفين، ما يعرف بـ "النظرية الانتقائية". هذه النظرية تقوم على فكرة جوهرية مفادها أن الدافع الأساسي للقادة هو الحفاظ على مواقعهم السياسية. ففي سبيل البقاء في السلطة، يتخذون قرارات تتعلق بتوزيع الموارد وتبني السياسات المناسبة، مع التركيز بشكل خاص على ضمان استمرار سيطرتهم على زمام الأمور.
إن الأحداث المأساوية التي شهدها لبنان، بما في ذلك سلسلة التفجيرات الإسرائيلية التي استهدفت أجهزة الاتصال اللاسلكي مثل "بيجر" و "آيكوم"، وتصاعد المواجهات المسلحة التي تلت ذلك والتي شملت قصفًا متبادلاً بالصواريخ، وسقوط الآلاف من الضحايا الأبرياء، واغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، كل ذلك قد يتماشى مع جوهر النظرية الانتقائية المذكورة أعلاه. إذ يُزعم أن نتنياهو أقدم على هذه العمليات العسكرية بهدف تعزيز موقفه السياسي وترسيخ سلطته.
ولكن ما هي الدلائل والمؤشرات التي تكشف عن سعيه الحثيث للتشبث بمنصبه؟ وهل سيظل أمن المنطقة بأسرها رهنًا بمصير شخص واحد لا يعبأ إلا بإنقاذ نفسه من المساءلة القانونية والعقوبات المحتملة؟ وهل ستنزلق المنطقة نحو حرب شاملة لا تخضع لأي قيود أو ضوابط؟ هذه هي الأسئلة المحورية التي يسعى هذا المقال إلى استكشافها والإجابة عليها.
نتنياهو في قفص الاتّهام
في يوم الثلاثاء الموافق 27 فبراير/شباط من العام 2018، أبلغ ضباط الشرطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه متهم رسميًا في ثلاث قضايا خطيرة، وهي: الرشوة، والاحتيال، وخيانة الأمانة التي ائتمنه عليها الشعب. وفي اليوم ذاته، ألقى نتنياهو خطابًا مؤثرًا موجهًا إلى الشعب الإسرائيلي، استعرض فيه تاريخه الطويل في خدمة الوطن على مدار 50 عامًا، بما في ذلك فترة خدمته في القوات الخاصة وعمله سفيرًا لإسرائيل لدى الأمم المتحدة، وذلك في محاولة جادة لإثبات ولائه وإخلاصه للدولة.
ووفقًا لتقرير نشرته مجلة الإيكونوميست المرموقة، تلقى نتنياهو وزوجته هدايا فاخرة تضمنت زجاجات شمبانيا باهظة الثمن، وسيجار كوبي فاخر، ومجوهرات ثمينة. وقدرت الشرطة القيمة الإجمالية لهذه الهدايا بنحو 280 ألف دولار أمريكي. ويُعد هذا الاتهام سابقة خطيرة في تاريخ إسرائيل، إذ لم يسبق أن وُجهت اتهامات جنائية لرئيس وزراء أثناء توليه منصبه.
فشل مشروع التعديل القضائي
في خطوة جريئة فسرها المراقبون على أنها محاولة يائسة من نتنياهو للنجاة من الملاحقة القضائية، قام حلفاؤه في الكنيست بصياغة مشروع قانون يهدف إلى تعديل النظام القضائي، وتقويض صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية وتقليص قدرتها على ممارسة دورها الرقابي الدستوري.
وتضمن القانون المقترح بنودًا تطالب بتأجيل محاكمة رئيس الوزراء المتهم بارتكاب جرائم مزعومة إلى ما بعد انتهاء ولايته. وقد أطلق على هذا القانون اسم "القانون الفرنسي"، استلهامًا من الحصانة التي يتمتع بها الرؤساء في فرنسا من أي ملاحقة قضائية. وبموجب القانون المقترح، يمكن محاكمة رئيس الوزراء بتهم مختلفة، باستثناء تهم الفساد، الأمر الذي جعل القانون يبدو وكأنه مصمم خصيصًا لحماية نتنياهو. ولكن هذا المشروع الطموح باء بالفشل بسبب المقاومة الشديدة التي واجهها من قبل الشارع الإسرائيلي.
الفشل الاستخباري في السابع من أكتوبر/تشرين الأول
هناك قضية أخرى تلاحق نتنياهو، وهي الفشل الاستخباري الذريع الذي رافق هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. وفي هذا الصدد، صرح نتنياهو بأن خطأه الأساسي يكمن في إذعانه لتردد مجلس الوزراء الأمني في شن حرب شاملة على قطاع غزة. وأكد في بعض تصريحاته أن الهجوم أثبت أن أولئك الذين زعموا أن حماس قد تم ردعها كانوا مخطئين.
وقد تبادل نتنياهو الاتهامات مع قادة الجيش والمؤسسة الأمنية بشأن فحوى تقييمات المخاطر الأمنية التي سبقت هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول. ولكن الأمر الجوهري هنا هو أن المسؤولية السياسية تقع في نهاية المطاف على عاتقه بصفته رئيسًا للوزراء، وتُعد هذه النقطة من بين الأمور التي تثير قلقه وانزعاجه.
وبالتالي، ستطاله المسؤولية السياسية بمجرد انتهاء الحرب. وبقراءة متأنية لسلوك نتنياهو في أعقاب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، واستنادًا إلى النظرية الانتقائية التي تمت الإشارة إليها، يبدو أنه يتحرك وفقًا لمنطق البقاء السياسي، والحرص الشديد على الاحتفاظ بالسلطة؛ لتجنب المساءلة الجنائية التي ستلاحقه حتمًا في حال مغادرته منصبه.
وخلاصة المنطق الذي تعتمده النظرية؛ هو إمكانية استخدام النموذج الذي وضعته للتنبؤ بسلوك القادة وخياراتهم السياسية، وذلك من خلال توفيرها إطارًا قويًا لفهم ديناميكيات القوة السياسية والحوافز الكامنة وراء قرارات القادة.
إغلاق باب التسوية والاتجاه للتّصعيد
واجه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ضغوطًا متزايدة بعد إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن اتفاق مقترح لإنهاء القتال في غزة. وقد حث العديد من الإسرائيليين نتنياهو على تبني الصفقة، وشهدت البلاد عددًا من المظاهرات الحاشدة بقيادة عائلات الرهائن المحتجزين لدى حماس، والتي طالبت الحكومة بالتحرك الفوري والقبول بوقف إطلاق النار الدائم وإنهاء الأزمة وإعادة الرهائن إلى ديارهم. ولكن حلفاء اليمين المتطرف هددوا بإسقاط الحكومة إذا وافقت على الصفقة، الأمر الذي دفع نتنياهو لوصف وقف إطلاق النار الدائم في غزة بأنه "غير قابل للتنفيذ"؛ إلا بعد تلبية الشروط طويلة الأمد لإنهاء الحرب.
وفي السياق ذاته، أشار وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى أنه سيتم حل الحكومة إذا وافقت على الصفقة، الأمر الذي قد يدفع نتنياهو إلى خوض انتخابات جديدة. وإذا خسر منصب رئيس الوزراء، فسوف يواجه المحاكمة بتهم الفساد القديمة، ويتحمل المسؤولية الكاملة عن الإخفاقات الأمنية التي أدت إلى الحرب.
إن اغتيال فؤاد شُكر، القائد العسكري الأعلى لحزب الله، في بيروت، والزعيم السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران، ثم أخيرًا الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، يمكن قراءته في سياق التصعيد الذي يهدف إلى نسف أي تسوية محتملة للحرب في غزة، وليس بدافع الرغبة الإسرائيلية في تحويل المواجهات المحدودة إلى حرب إقليمية واسعة النطاق.
ويبدو واضحًا وجليًا أن جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك إيران وحزب الله، وإسرائيل والولايات المتحدة، تدرك تمام الإدراك أن الحرب الشاملة لا تصب في مصلحة أي طرف. وهذا ما يفسر عدم وصول المواجهات إلى نقطة اللاعودة، على الرغم من مرور أشهر من المناوشات والاشتباكات المحدودة.
وكل تصرفات نتنياهو، بما في ذلك إطالة أمد الحرب في غزة، يجب أن تُفهم في هذا السياق، وهو أن بقاءه السياسي يعتمد بشكل كبير على دعم الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تسعى جاهدة إلى استمرار وتوسيع الحرب، والتي كانت تدعو بشكل علني إلى اتخاذ موقف أكثر عدوانية تجاه حزب الله وإيران.
سيناريوهات مستقبل نتنياهو
ترتبط هذه السيناريوهات بشكل وثيق بنتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، وهي لا تخرج عن نطاق سيناريوهين رئيسيين:
- السيناريو الأول: هو فوز كامالا هاريس والتوصل إلى تسوية للحرب في غزة، وبالتالي وضع نهاية لمستقبل نتنياهو السياسي. فمنذ أكثر من عقد من الزمان، تعالت الأصوات المطالبة باستقالة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وذلك لأسباب عديدة، من بينها اتساع هوة عدم المساواة، واستمرار أزمة الإسكان الطاحنة في إسرائيل، بالإضافة إلى خطابه الشعبوي الذي أفرز الكثير من الأزمات الداخلية والخارجية، فضلًا عن ملفات الفساد العديدة التي ثبت تورطه فيها.
ولعل ما نشرته صحيفة هآرتس اليسارية تحت عنوان: "إن أدنى نقطتين على وجه الأرض توجدان في إسرائيل: البحر الميت، وسلوك بنيامين نتنياهو"، يعزز من فكرة اقتراب نهاية حقبته السياسية.
- السيناريو الثاني: هو فوز دونالد ترامب الذي يتبنى الخطاب الشعبوي ذاته الذي يتبناه نتنياهو، وبالتالي حصوله على الدعم السياسي الذي يحتاجه للاستمرار في المعركة بدون أي قيود أو شروط. وهذا السيناريو يمكن أن يقود المنطقة إلى المزيد من عدم الاستقرار والفوضى، على الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يحظى حاليًا بالدعم العسكري الذي يحتاجه من الولايات المتحدة.
ولكن الفرق الجوهري يكمن في الدعم السياسي المطلق الذي يمكن أن يحصل عليه نتنياهو من إدارة ترامب. فالحزب الجمهوري لا يولي اهتمامًا كبيرًا للمآلات الإنسانية للحرب الدائرة، وهم يؤيدون ما يفعله نتنياهو بشكل أعمى، على عكس الحزب الديمقراطي الذي تهتم شريحة كبيرة من قواعده بما يجري في غزة وفي المنطقة، على الرغم من السياسة المنحازة التي تتبناها قيادة الحزب لإسرائيل.
الخلاصة:
إن التصعيد الأخير الذي يشهده لبنان يقع ضمن ثلاثة سياقات رئيسية:
أولًا: سياق الحفاظ على التحالف اليميني الذي تمثله الحكومة السابعة والثلاثون لإسرائيل، وهي الحكومة الحالية التي تشكلت في 29 ديسمبر/كانون الأول 2022، بعد انتخابات الكنيست التي أجريت في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وتتكون الحكومة الائتلافية من ستة أحزاب رئيسية هي: الليكود، يهدوت هتوراة، شاس، الحزب الصهيوني الديني، أوتزما يهوديت ونعوم، ويقودها بنيامين نتنياهو، الذي تولى منصبه كرئيس لوزراء إسرائيل للمرة السادسة في تاريخه السياسي. وتتميز هذه الحكومة بضمها عددًا من السياسيين البارزين من اليمين المتطرف.
ثانيًا: قطع الطريق على أي تسوية للحرب الدائرة في غزة، والذي يُعد شرطًا حاسمًا لبقاء التحالف الحاكم. وبالتالي، فإن التوصل إلى أي تسوية في المستقبل القريب سيحمل في طياته نهاية هذا الائتلاف اليميني المتطرف، وهو أمر مستبعد وفقًا لمنطق النظرية الانتقائية التي تمَّت الإشارة إليها في مقدمة المقال.
ثالثًا: حرص هذا التحالف بزعامة نتنياهو على إحراج الحزب الديمقراطي برئاسة كامالا هاريس، التي تُعتبر الأوفر حظًا في الفوز بانتخابات الرئاسة الأميركية القادمة، وذلك لسببين رئيسيين:
- أولهما: مخاوفهم العميقة من ضغط الديمقراطيين المحتمل على إنجاز تسوية سياسية للحرب الدائرة في غزة، حال فوزهم بالانتخابات؛ وذلك إرضاءً لقواعد الحزب من التقدميين.
- وثانيهما: محاولة إضعاف قدرة هاريس على حصد أصوات العرب والمسلمين الذين يُمثلون ورقة انتخابية حاسمة في الفوز بولاية ميشيغان كأحد الطرق الموصلة إلى البيت الأبيض. مع الأخذ في الاعتبار أن هذا التحالف يفضل التعامل مع ترامب وحزبه الجمهوري بدلًا من الديمقراطيين.
والمحصلة النهائية لهذه السياقات الثلاثة؛ هي بقاء نتنياهو بأي ثمن في السلطة لتفادي المساءلة القانونية. وبالتالي، فإن ما جرى في لبنان وما سيجري في الأيام القادمة لا يخرج عن هذه السياقات. ولكن خيارات كبح جماح نتنياهو، الذي قد يقود المنطقة بأسرها إلى كارثة محققة مقابل الحفاظ على مستقبله السياسي، تبدو محدودة وغير فعالة. فالتعويل على مجلس الأمن الدولي يُعد خيارًا غير مُثمر؛ بسبب الفيتو الأميركي المتوقع لأي قرار يُتخذ ضد إسرائيل.
وكذلك الرهان على تحرك دبلوماسي تقوده الصين، على خلفية التصريحات الأخيرة لوزير خارجيتها، يبدو فارغ المحتوى وغير عملي، ولا يعدو كونه حملة علاقات عامة تهدف إلى كسب ودّ الرأي العام في المنطقة، ولا يمكن من خلاله تحقيق نتائج ملموسة على أرض الواقع.
والخيار الوحيد المتاح وفق تقديرنا لمواجهة مخططات اليمين المتطرف الذي يقوده نتنياهو، هو استخدام وسائل الإعلام الجديد، وتحديدًا منصات التواصل الاجتماعي، من أجل مخاطبة الرأي العام العالمي وكسب تأييده. وهذه مهمة تقع على عاتق قادة الرأي والمثقفين، والرأي العام النوعي في العالم العربي.